/ وقال شيخ الإسلام :
فصل
سَمَّى اللّه آلهتهم التى عبدوها من دونه شفعاء، كما سماها شركاء فى غير موضع، فقال فى يونس: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَـؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الآية 18 ]، وقال: {أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَاء قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} [ الزمر :43، 44]، {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ وَلَمْ يَكُن لَّهُم مِّن شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاء} [ الروم: 12، 13].
وجمع بين الشرك والشفاعة فى قوله: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ} [ سبأ: 22، 23 ]. فهذه الأربعة هى التى يمكن أن يكون لهم بها تعلق، الأول: ملك شىء ولو قل، الثانى: شركهم فى شىء من الملك. فلا ملك ولا شركة ولا معاونة يصير بها نداً. فإذا انتفت الثلاثة بقيت الشفاعة فعلقها بالمشيئة.
وقال: {وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا} [ النجم: 62 ]، وقال: {قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً} الآيتين [الإسراء:56]، وقال فى اتخاذهم قربانا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3]، وقال: {فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [ الأحقاف:28]
/ وقال شيخ الإسلام ـ رحمه اللّه :
فصل
فى الشفاعة المنفية فى القرآن، كقوله تعالى: {وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} [ البقرة: 48 ]، وقوله تعالى: {وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ} [ البقرة:123 ]، وقوله: {مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ} [ البقرة: 254 ]، وقوله: {فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} [الشعراء: 100، 101 ]، وقوله: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر: 18]، وقوله: {يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} [ الأعراف:53 ]، وأمثال ذلك .
واحتج بكثير منه الخوارج والمعتزلة على منع الشفاعة لأهل الكبائر؛ إذ منعوا أن يشفع لمن يستحق العذاب، أو أن يخرج من النار من يدخلها، ولم ينفوا الشفاعة لأهل الثواب فى زيادة الثواب .
ومذهب سلف الأمة وأئمتها وسائر أهل السنة والجماعة: إثبات الشفاعة لأهل الكبائر، والقول بأنه يخرج من النار مَنْ فى قلبه مثقال ذرة من إيمان .
وأيضاً، فالأحاديث المستفيضة عن النبى صلى الله عليه وسلم فى الشفاعة: فيها استشفاع أهل الموقف ليقضى بينهم، وفيهم المؤمن والكافر، وهذا فيه / نوع شفاعة للكفار. وأيضاً، ففى الصحيح عن العباس بن عبد المطلب أنه قال: يا رسول اللّه، هل نفعتَ أبا طالب بشىء ؟ فإنه كان يَحُوطك ويغضب لك. قال: (نعم هو فى ضَحْضاح من نار، ولولا أنا لكان فى الدرك الأسفل من النار)، وعن عبد اللّه بن الحارث قال: سمعت العباس يقول: قلت: يا رسول اللّه، إن أبا طالب كان يحوطك وينصرك، فهل نفعه ذلك ؟ قال: (نعم، وجدته فى غمرات من نار فأخرجته إلى ضحضاح) .
وعن أبى سعيد الخدرى ــ رضى اللّه عنه ــ أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ذكر عنده عمه أبو طالب، فقال: (لعله تنفعه شفاعتى يوم القيامة فيجعل فى ضحضاح من النار، يبلغ كعبيه، يغلى منه دماغه) .
فهذا نص صحيح صريح لشفاعته فى بعض الكفار أن يخفف عنه العذاب، بل فى أن يجعل أهون أهل النار عذاباً، كما فى الصحيح أيضاً عن ابن عباس: أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: (أهون أهل النار عذابا أبو طالب، وهو منتعل بنعلين يغلى منهما دماغه) .
وعن أبى سعيد الخدرى؛ أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: (إن أدنى أهل النار عذاباً منتعل بنعلين من نار، يغلى دماغه من حرارة نعليه) ، وعن النعمان بن بشير قال: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أهون أهل النار عذاباً يوم القيامة لرجل يوضع فى أخمص قدميه جمرتان، يغلى منهما دماغه) ، وعنه قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: (إن أهون أهل النار عذاباً من له نعلان وشراكان من نار، يغلى منهما دماغه، كما يغلى المِرْجَل، ما يرى أن أحداً أشد منه عذاباً، وإنه لأهونهم عذاباً).
/وهذا السؤال الثانى يضعف جواب من تأول نفى الشفاعة على الشفاعة للكفار، وإن الظالمين هم الكافرون ....
فيقال: الشفاعة المنفية هى الشفاعة المعروفة عند الناس عند الإطلاق، وهى أن يشفع الشفيع إلى غيره ابتداء فيقبل شفاعته، فأما إذا أذن له فى أن يشفع فشفع، لم يكن مستقلاً بالشفاعة، بل يكون مطيعاً له أى تابعاً له فى الشفاعة، وتكون شفاعته مقبولة ويكون الأمر كله للآمر المسؤول .
وقد ثبت بنص القرآن فى غير آية: أن أحداً لا يشفع عنده إلا بإذنه. كما قال تعالى: {مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [ البقرة:255 ] ،وقال:{وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [ سبأ:23 ]، وقال:{وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [ الأنبياء: 28 ]،وأمثال ذلك. والذى يبين أن هذه هى الشفاعة المنفية: أنه قال: {وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [ الأنعام: 51 ]، وقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ} [ السجدة: 4]، فأخبر أنه ليس لهم من دون الله ولىّ ولا شفيع.
وأما نفى الشفاعة بدون إذنه، فإن الشفاعة إذا كانت بإذنه لم تكن من دونه، كما أن الولاية التى بإذنه ليست من دونه، كما قال تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [ المائدة: 55، 56 ] .
وأيضاً، فقد قال: {أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَاء قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ
قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}
[ الزمر: 43، 44 ]، فذم الذين اتخذوا من دون اللّه شفعاء وأخبر أن لِلّه الشفاعة جميعا، فعلم أن الشفاعة منتفية عن غيره؛ إذ لا يشفع أحد إلا بإذنه، وتلك فهى له .وقد قال: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَـؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس: 18].
ومما يوضح ذلك :أنه نفى يومئذ الخلة بقوله:{مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [ البقرة: 254 ] ومعلوم أنه إنما نفى الخلة المعروفة، ونفعها المعروف كما ينفع الصديق الصديق فى الدنيا، كما قال: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ
ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ}
[الانفطار:17-19]، وقال: {لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [ غافر: 15، 16 ]، لم يَنْفِ أن يكون فى الآخرة خلة نافعة بإذنه،فإنه قد قال:{الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ} الآيات [الزخرف:67، 68]، وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم: (يقول اللّه تعالى: حَقَّْتْ مَحَبَّتِى لِلْمُتحَابِينَ فِى) ، ويقول اللّهُ تعالى: (أَيْنَ المُتَحَابُّونَ بِجَلالِى ؟ الْيَوْمَ أَظِلُّهُمْ فِى ظِلِّى يَوْمَ لا ظِلَّ إِلا ظلِّى) .
فتعين أن الأمر كله عائد إلى تحقيق التوحيد، وأنه لا يُنفع أحد ولا يضر إلا بإذن اللّه، وأنه لا يجوز أن يُعبد أحد غير اللّه، ولا يُستعان به من دون اللّه، وأنه يوم القيامة يظهر لجميع الخلق أن الأمر كله للّه، ويتبرأ كل مدع من / دعواه الباطلة، فلا يبقى من يدعى لنفسه معه شركا فى ربوبيته، أو إلهيته، ولا من يدعى ذلك لغيره. بخلاف الدنيا، فإنه وإن لم يكن رب ولا إله إلا هو فقد اتُخذ غيره ربا وإلها، وادعى ذلك مدعون .
وفى الدنيا يشفع الشافع عند غيره ،وينتفع بشفاعته وإن لم يكن أذن له فى الشفاعة، ويكون خليله، فيعينه ويفتدى نفسه من الشر، فقد ينتفع بالنفوس والأموال فى الدنيا، النفوس ينتفع بها تارة بالاستقلال، وتارة بالإعانة وهى الشفاعة، والأموال بالفداء، فنفى اللّه هذه الأقسام الثلاثة. قال تعالى: {لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} [ البقرة: 48 ]، وقال: {لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ} [ البقرة: 254]، كما قال: {لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا} [ لقمان: 33 ]، فهذا هذا واللّه أعلم .
وعاد ما نفاه اللّه من الشفاعة إلى تحقيق أصلى الإيمان، وهى الإيمان باللّه وباليوم الآخر، التوحيد والمعاد، كما قرن بينهما فى مواضع كثيرة، كقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ} [ البقرة: 8 ]، وقوله: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ} [ البقـرة: 156 ]، وقـوله: {مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [ لقمان: 28 ]، وقوله: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة: 28 ]. وأمثال ذلك .